الثلاثاء، 27 يناير 2015

ما الذي تفعله الأنظمة التعليمية الجيّدة بشكل صحيح؟

ما الذي تفعله الأنظمة التعليمية الجيّدة بشكل صحيح؟
إيمي س.تشوي
ترجمة : رحاب علي
المقال الأصلي : من هنا
في كوريا الجنوبية وفنلندا لا يتعلّق الأمر بالعثور على المدرسة "الصحيحة".
قبل خمسين عامًا من الآن كانت كلٌ من كوريا الجنوبية وفنلندا يملكان نُظمًا تعليمية سيئة جدًا. وكانت فنلندا في خطر أن تُصبح الربيبة الإقتصادية لأوروبا، وكانت الحرب الأهلية قد عصفت بكوريا الجنوبيّة. وبعد مرور نصف القرن الماضي تحوّلت مدارس كلٌ من كوريا الجنوبيّة وفنلندا، ويُشاد اليوم لكلا البلدين على الصعيد الدولي لتحقيقهما نتائج تعليمية عالية للغاية. ما الذي يمكن للبلدان الأخرى تعلّمه من هذين النموذجين التعليميين الناجحين رغم أنهما متناقضتان تمامًا؟ نجدُ هنا لمحة عامة عمّا كانت كلٌ من كوريا الجنوبيّة وفنلندنا يفعلانه بشكل صحيح.
النموذج الكوري: الصلابة، والعمل الشاق.
لآلاف السنين، في بعض أجزاء من آسيا كانت الطريقة الوحيدة لتسلّق السلّم الاجتماعي والاقتصادي وإيجاد عملٍ آمن تحدث عبر تأدية فحص - المسؤول عن النظام فيه هو وكيلٌ للإمبراطور- ويقول مارك تارك الرئيس والمدير التنفيذي للمركز القومي للتعليم والإقتصاد: تلك الامتحانات المطلوبة شاملة للمعارف جميعها، وتأديتها بمثابة طقوس قاسية للنجاح. واليوم تجد أن كثيرًا من الدول الكونفوشيوسية مازالت تحترم هذا النوع من التحصيل العلمي المعزز بثقافة الإمتحان.
حققّ الكورويون إنجازًا إستثنائيًا: فجميع سكان هذه الدولة يجيدون القراءة والكتابة بنسبة 100%. ولكن النجّاح لا يأتي إلا بثمن.
من بين هذه البلدان تقفُ كوريا الجنوبية بعيدًا كأكثرها تطرفًا، ويمكن القول كأكثرها نجاحًا. حققّ الكوريون هذا الإنجاز الإستثنائي: : فجميع سكان هذه الدولة يجيدون القراءة والكتابة بنسبة 100%. ويتواجدون في طليعة اختبارات المقارنة الدولية للإنجازات بما في ذلك اختبارات التفكير النقدي والتحليل. لكنّ هذا النجاح لا يأتي دون ثمن، فالطلاب تحت ضغط هائل، والضغط دون هوادة للإنجاز دون أيّ اعتبار للمواهب، لأنّ الثقافة تؤمن بالعمل الجاد والإجتهاد قبل كلّ شيء، وبأنّه لا عذر للفشل. ويدرس الأطفال على مدار السنة في المدرسة ومع المدرسين الخصوصين أيضًا. حيثُ يمكنك أن تُصبح ذكيًا بما يكفي إذا درست بشكل جاد بما يكفي.


نساء كوريا الجنوبية وهنّ يصليّن لنجاح أبنائهنّ في الإمتحان السنوي للقبول في الكليّة. الصورة بواسطة تشونغ سونغ يون/ ثنك ستوك.
"يعتقد الكوريون من الأساس أنّ على المرء أن يمرّ بهذه الفترة الصعبة ليكون له مستقبلٌ عظيم". بحسب قول أندرياس شلايشر مدير التعليم والمهارات في البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA) ومستشار خاصّ في سياسة التعليم في منظمة التعاون والتنمية (OECD).
وأضاف "إنّها مسألة التعاسة على المدى القصير والسعادة على المدى الطويل". فالأمر لا يتعلّق بمجرّد ضغط الأباء على أبنائهم، لأنّ هذه الثقافة التقليدية تحتفي بالإمتثال والنظام، والضغط من قبل الطلاب الآخرين يمكن أيضًا أن يزيد من توقعات الأداء.
هذا السلوك المُجتمعيّ يعبرّ عن نفسه حتى في التعليم في مرحلة الطفولة المُبكرة، بحسب قول جو توبين أستاذ التربية في مرحلة الطفولة المبكرة في جامعة جورجيا والمختصّ في البحوث الدولية المقارنة.
في كوريا كما في غيرها من البلدان الآسيوية، أحجام الفصول كبيرةٌ جدًا، والذي قد لا يكون أمرًا مرغوبًا فيه بالنسبة لوالدين أمريكيين على سبيل المثال، ولكن في كوريا الهدف يتمثل في قيادة المعلم للفصل كمجتمع بالإضافة إلى تنمية العلاقات النديّة.
بينما في مدارس رياض الأطفال الأمريكية، يركّز المعلمون على تطوير علاقات فرديّة مع الطلاب، بالإضافة إلى التدخل بشكل منتظم في العلاقات بين الأقران.

"أعتقد أنه من الواضح أن هنالك طرقًا أفضل لتعليم أبنائنا وطرقًا اسوأ"
هذا ما تقوله أماندا ريبلي، مؤلفة كتاب "أذكى أطفال في العالم: وكيف أصبحوا كذلك". وتُكمل :في الوقت نفسه إن كنت مضطرة للإختيار بين معدل التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية وبين معدل التعليم الكوري لطفلي، لاخترت على مضض النموذج الكوريّ. الحقيقة هي أنّه في عالمنا الحديث على الطفل أن يعرف كيف يتعلّم، وكيف يعمل بشكل جادّ وكيف يستمر بعد الفشل. وهذا هو ما يعلّمه النموذج الكوريّ.

النموذج الفنلندي: الاختيار اللامنهجي، والدوافع الذاتية.
في فنلندا من ناحية أخرى، يتعلّم الطلاب فوائد كلٍ من الصرامة والمرونة. يقول المربون أن النموذج الفنلندي هو يوتوبي "مثالي".
فنلندا لديها يوم دراسيّ قصير وغنيّ باللامنهجيّة الّتي ترعاها المدرسة، لأنّ الفنلنديين يعتقدون أن التعلّم الأهمّ يحدث خارج الفصول الدراسية.
في فنلندا، المدرسة هي مركز المجتمع، كما تُلاحظ شلايشر. ولا تقدّم المدرسة الخدمات التعليمية فقط بل تقدم خدمات اجتماعية أيضًا، فالتعليم يتعلّق بخلق الهوية.
تقدّر الثقافة الفنلندية الدوافع الذاتية والسعي وراء المصلحة الشخصيّة. فاليوم الدراسي قصيرٌ نسبيًا وغنيّ باللامنهجيّة الّتي ترعاها المدرسة، لأنّ الفنلنديين يعتقدون تأثرًا بثقافتهم أنّ التعلم الأهم يحدث خارج الفصول الدراسية.
(هل يوجد إستثناء؟ الرياضة. والّتي لا ترعاها المدارس بل ترعاها المدن.)
ثُلث الفصول الّتي يدرسها الطلاب في المدرسة الثانويّة هي اختيارية، ويمكنهم أيضًا اختيار الامتحانات التي يريدون تأديتها لشهادة الثانوية العامة. إنّها ثقافة ذات ضغوط أقلّ، وتقدّر مجموعة واسعة من خبرات التعلّم.
ولكن هذا لا يستثنيها من الصرامة الأكاديمية، مدفوعةً بتاريخ البلاد المُحاصرة بين القوى العظمى الأوروبية، هذا ما تقوله باسي سالبرج المربية الفنلندية ومؤلفة كتاب "الدروس الفنلندية: ما الذي يمكن للعالم أن يتعلمه من التغيير التربوي في فنلندا".
المعلمون في فنلندا يدرسون لمدة 600 ساعة في السنة، ويقضون بقيّة الوقت في التطوير المهنيّ. بينما في الولايات المتحدة الأمريكية يكون المعلمون في الفصول لمدة 1100 ساعة في السنة مع القليل من الوقت لأجل الوقوف على الأراء وردود الفعل.
" ومفتاح ذلك هو التعليم. لا وجود للفنلنديين في الواقع خارج فنلندا" ويقول سالبرج "هذا يدفع الناس إلى اتخاذ التعليم بجدية أكثر.
على سبيل المثال لا أحد يتحدث هذه اللغة المُضحكة التي نتحدث بها، فنلندا مزدوجة اللغة حيث يتعلم كلّ طالب كلًا من الفنلندية والسويدية. كلّ فنلندي يريد أن يكون ناجحًا يجب عليه أن يتقن لغةً أخرى واحدة على الأقلّ، وغالبًا ما تكون اللغة الإنجليزية، لكن عادةً أيضًا قد يتعلم الآخرون اللغة الألمانية والفرنسية والروسية ولغات أخرى عديدة. حتى الأطفال الصغار يفهمون أنه لا أحد آخر يتحدث اللغة الفنلندية، وأنّهم إن كانوا يريدون فعل أيّ شيء آخر في الحياة فسيحتاجون لتعلم اللغات الأخرى.
الأطفال في جوقة المدرسة الفنلندية وهم يؤدون أغنية بعنون "الوقت هو الآن" في يوم العمل لأجل المناخ. الصورة بواسطة آبو لاسي كانكالا - فليكر.
الفنلنديون يتشاركون في شيئ واحد مع الكوريين الجنوبيين: وهو الاحترام العميق للمعلمين والإنجازات الأكاديمية.
في فنلندا يُقبل واحد فقط من كل عشرة يتقدمون لبرامج التعليم. بعد الإغلاق الشامل ل80 في المئة من كليات المعلمين في عام 1970 ظلّت أفضل برامج التدريب فقط في الجامعات، وارتفعت مكانة المُعلمين في هذا البلد.
المعلمون في فنلندا يدرّسون لمدة 600 ساعة في السنة، ويقضون بقيّة الوقت في التطوير المهنيّ، والاجتماع مع الزملاء والطلاب والعائلات. بينما في الولايات المتحدة الأمريكية يكون المعلمون في الفصول لمدة 1100 ساعة في السنة مع القليل من الوقت لأجل التعاون والوقوف على الأراء وردود الفعل والتطوير المهني.
كيف يمكن للأمريكيين تغيير ثقافة التعليم؟
كما أشار المتحدث في تيد السير كين روبنسون في كتابه الحديث الذي نُشر في عام 2013 بعنوان (كيفية النجاة من الموت المحقق للتعليم) حين يتعلق الأمر بمشاكل التعليم الأمريكية الحالية "فأزمة التسرب من التعليم هي مجرد غيض من فيض. ما لا يُحسب حسابه هم الأطفال الذين في المدرسة وينفصلون عنها، الذين لا يتمتعون بها ولا يحصلون على أي فائدة حقيقية منها" وهو مالا يجب أن تكون عليه الحال.
بحسب مُلاحظة أماندا ريبلي "الثقافة هي الشيء الذي يتغيّر، إنّها أكثر ليونة مما نعتقد. الثقافة هي مثل ذلك الأثير الذي تحوم حوله أنواع متعددة من الأشياء، بعضها يتم تنشيطها وبعضها كامن، ويتم تنشيط تلك الأشياء لضرورة اقتصادية أو لتغيّر في القيادة أو لحادث من التاريخ" والخبر السارّ تعبر عنه ريبلي: "نحن الأمريكيون نملك الكثير من الأشياء في ثقافتنا من شأنها أن تدعم نظامًا تعليميًا قويًا جدًا.، مثل الخطاب الذي طال أمده حول المساواة في الفرص والجدارة القوية والمشروعة" .
هنالك سبب واحد لكوننا لم نحرز أي تقدم أكاديمي كبير على مدى السنوات ال50 الماضية وهو أن ذلك لم يكن محسومًا اقتصاديًا للأطفال الأمريكيين أن يتقنوا حل المشاكل والتفكير النقدي من أجل البقاء على قيد الحياة.
ولكنّ هذا لم يعد صحيحًا بعد الآن. " هنالك تأخر لدى الثقافات في اللحاق بركب الحقائق الاقتصادية، والآن نحنُ نعيش في هذا التأخر" وتقول ريبلي: "وهكذا نجد أن أطفالنا لا يكبرون مع هذا النوع من المهارات ليخوضوا في الاقتصاد العالمي".
An American classroom ca. 1899: students studying the landing of the Pilgrims at Plymouth, Mass. Photo via The Library of Congress. http://www.loc.gov/pictures/item/2004668395/resource/
أحد الفصول الدراسية الأمريكية في كاليفورنيا عام 1899: الطلاب وهم يدرسون كيف ترسو سفن الحجاج في بليموث ، ماساشوستس. صور من مكتبة الكونغرس.
"نحنُ سجناء صُور وتجارب التعليم الّتي نملكها" حسب قول توني واغنر، خبير مقيم في جامعة هارفارد بمركز الابتكار التعليمي ومؤلف كتاب (فجوة الإنجاز العالمية) "نريد لمدارس أطفالنا أن تعكس خبراتنا، أو ما نظنّ أننا أردناه. وهذا يحدّ بشدة من قدرتنا على التفكير بشكل خلاق فيما يتعلق بنوع مختلف من التعليم. ولكن ليس هناك طريقة للتغيير. نحن بحاجة إلى إصلاح جذري".
في الواقع، تضع الثقافة الأمريكية اليوم مسؤولية الاختيار على عاتق الأباء للعثور على المدارس "الصحيحة" لأطفالنا، بدلًا من الثقة في أن جميع المدارس قادرة على إعداد أطفالنا لمرحلة البلوغ. هوسنا بالموهبة يضع العبء على الطلاب ليكونوا "أذكياء" بدلًا من التركيز على قدرة الكبار على تعليمهم، والنظام القديم لدينا لتمويل المدارس يجعل قيمة العقارات هي الحكم في الإنفاق على الطالب الواحد، وليس القيم الفعلية.
لكن ما الذي ستبدو عليه ثقافة التعليم الأمريكية في الغد؟ في معظم ثقافات التعليم الأكثر نجاحًا في العالم النظام هو المسؤول عن نجاح الطالب، ويقول شلايشر وليس فقط الوالد أو الطالب أو المعلم. فالثقافة تخلق النظام. والأمل يكمن في أن الأمريكيين يمكنهم أن يجدوا الثغرة والميل لتغيير ثقافتهم بالاعتماد على أحد الوالدين، والطالب والمعلم في وقت واحد.