يتأكد المجتمع العلمي يوما بعد يوم من
أن القدرة على التحكم في النفس تعلب دورا مركزيا في حياتنا وما نحققه فيها. قبل
ذلك كنا نعلم دائما أن هناك تأثير قوي للذكاء أو النشأة الاجتماعية, ولكن هذه
العوامل غالبا ما تكون مستعصية على التعديل والتقويم. على العكس من ذلك, فإن قدرة
التحكم في النفس هي مهارة مكتسبة يمكن أن نقوم بتقويمها وتحسينها مما يؤدي لنتائج
مذهلة في النجاح في الحياة وتحقيق الأهداف.
إذا نظرت للبيئة من حولنا, فستلاحظ
أنه قد تم تصميمها على أساس تحدي قدرتك على التحكم في نفسك بكل صور هذا التحكم.
أغلب الأعمال والتجارات تمتلك الوسائل والمغريات التي تدفعنا للشراء الآن وليس
فيما بعد. يريد منك (كريسبي كريم) أن تشتري دستة من الكعك الآن بينما هي ساخنة,
ويريد منك (بست باي) أن تشتري التلفاز الجديد الآن قبل أن تغادر المحل, وحتى
الأطباء يريدون منك أن تسرع وتحجز مواعيد الفحوصات السنوية.
في أسواق اليوم لا مكان ولا مجال
للانتظار, وفي الحقيقة, يمكنك أن تنظر إلى النظام الرأسمالي كله على أنه مصمم بحيث
يجعلنا نحزم أمرنا ونشتري الآن, والتجارات والمشاريع التي تنجح في هذا أكثر من
غيرها, تحقق نجاحا أكثر من غيرها وتزدهر أكثر من غيرها (على الأقل في المدى
القريب) . وهذا النظام الاستهلاكي يقوم بالتأكيد باختبار قدرتنا على مقاومة
رغباتنا بشكل متكرر يوميا, ويضطرنا لممارسة التحكم في النفس.
ونظرا لهذه الصفات السائدة في
مجتمعنا, فإن التحكم في النفس يكتسب أهمية خاصة, ويصبح من الضروري أن نفهم المزيد
حول هذه القدرة الغامضة.
منذ عدة عقود, بدأ (والتر ميتشل) في
التحري حول العوامل المحيطة بالقدرة على التحكم في النفس. وقد وجد أن درجة التحكم في النفس الذاتية عند الأطفال
–والتي يظهرونها بشكل مستقل- عند اغرائهم بمكافأة صغيرة (مع الوعد بمكافأة أكبر لو
قاوموا هذا الإغراء) وجد أن هذه الدرجة من التحكم في النفس , تعطي القدرة على
التنبؤ بدرجات وقدرات الأطفال الاجتماعية في مرحلة المراهقة.
وقد بينت دراسة حديثة قام بها زملاء لي في جامعة (ديوك)
بصورة مقنعة جدا أن التحكم في النفس يلعب دورا هاما في التحصيل الدراسي والمهارة
الاجتماعية, ليس فقط في فترة المراهقة, ولكن أيضا في عوامل كثيرة في حياتنا في سن
النضج. قام الباحثون في تلك الرسالة بمتابعة ألف طفل لمدة 30 عاما, وقاموا بمراقبة
تأثير التحكم في النفس منذ سن مبكرة في الصحة,و الثروة, والأمان العام. وأظهروا
أنه بتثبيت عامل الذكاء والمكانة الاجتماعية, ومقارنة القدرة على التحكم في النفس,
وجدوا أن الأفراد الأقل تحكما في أنفسهم قد عاشوا تجارب ونتائج سلبية في حياتهم في
مجالات الصحة,و الثروة والأمان العام, وكان لديهم معدلات أعلى من المشاكل الصحية
مثل التعرض للأمراض المعدية, والاعتمادية الزائدة على بعض العقاقير, والمشاكل
المالية مثل تدني المدخرات, والمشاكل الاجتماعية مثل الانفصال عن الزوج أو الزوجة,
وحتى مشاكل جنائية. وقد أظهرت هذه الدراسة أن التحكم في النفس يمكن أن يكون له
تأثير عميق على نطاق واسع من أنشطة حياتنا, والخبر الجيد هو: لو أننا وجدنا طريقة
نزيد بها قدرتنا على التحكم في النفس, فإنه من الممكن أن يتحسن أداؤنا في كل تلك
المجالات.
من أين تأتي القدرة على التحكم في
النفس؟
أننا حين نلاحظ هذا التباين بين
الأفراد في قدرتهم على التحكم في أنفسهم, فينبغي أن نبدأ في التساؤل: من أين تأتي
هذه القدرة؟ هل هي موهبة ومنحة للشخص يولد بها أو يحرم منها؟ أم أنه من الممكن أن
نكتسبها؟ هل توجد استراتيجيات ومهارات تفيد في مقاومة المغريات المختلفة؟
لو أردنا التعبير بصورة أخرى: هل الأطفال
الأفضل في التحكم في النفس, لديهم قدرة خاصة للتحكم في رغباتهم وتحجيمها؟ أم أنهم
فقط قادرون على ايجاد طرق لتشتيت أنفسهم عن الانتباه لهذه المغريات, وبالتالي
يتجنبون الاستسلام لرغباتهم؟
إن الاحتمال الأخير هو احتمال وارد
جدا. يمكن أن نجد تلميحا يسانده من خلال مشاهدة فيديوهات للأطفال الذين شاركوا في
تجربة (والتر ميتشل), حيث كان من الواضح أن الأطفال كانوا يواجهون تحديا صعبا وهم
يقاومون أكل قطعة من الحلوى من أجل أن يأخذوا المزيد من الحلوى في وقت لاحق. من
خلال ملاحظتنا لسلوك الأطفال وتصرفاتهم, أمكننا أن نعرف أن الأطفال الأكثر نجاحا
في مقاومة المغريات المباشرة أمامهم هم الأطفال الذين نجحوا في إيجاد طرق تساعدهم
على مقاومة الإغراء: بعضهم كان يجلس على يديه, ليمنع نفسه جسديا من التقاط الحلوى,
وبعضهم حاول أن يصرف انتباهه عن الأمر من خلال الغناء أو الكلام أو النظر بعيدا عن
الحلوى. وزيادة على ذلك, فقد وجد (والتر ميتشل) ان كل الأطفال تحسن أداؤهم في
مقاومة الإغراء عندما اقترح عليهم أن يصرفوا انتباههم عن الحلوى (يمكنك الاطلاع
على إعادة حديثة لتجربة (ميتشل) الأصلية في هذا الرابط)
من الأمثلة التي تساعد على فهم
الموقف, قصة (أوليس) والحوريات في (الأوديسة): كان (أوليس) يعرف أن الحوريات يغنين
بصوت جميل يسحر من يسمعه ويدفع البحارة إلى الهلاك حين يتبعون الصوت, فكان يخشى أن
يحدث له ذلك , ولكنه في نفس الوقت لم يرد أن يحرم نفسه من الاستماع لأغانيهن
الجميلة, لهذا طلب من بحارته أن يملأوا آذانهم بالشمع لكي لا يسمعوا الغناء, ثم
قام بربط نفسه في صاري السفينة, بحيث يمكنه أن يسمع الغناء الجميل, وفي نفس الوقت
لا يمكنه أن يتتبع الصوت ويغرق. هل حرم نفسه من المغريات؟ لا ولكنه أوجد
استراتيجية لمنع نفسه من التحرك وفق هواه.
يبدو واضحا أن قدرة (أوليس) وهؤلاء
الأطفال على مقاومة المغريات لا تعود إلى قدرة ذهنية خاصة بالصمود والسمو في
مواجهة المغريات, ولكنها قدرة مرتبطة بإعادة تنظيم البيئة من حولهم (بربط أنفسهم
للصاري) و تقليل حدة المغريات التي تواجههم (بوضع الشمع في آذانهم).
فلو كانت هذه هي الحقيقة, فهو خبر جيد
لنا جميعا, لأنه يعني أنه من السهل أن نتعلم حيلا وطرق للتغلب على مشاكل التحكم في
النفس, دون أن نضطر أن نتعلم كيف نربي قدرة خارقة على الصمود المباشر في وجه
المغريات وهي أمامنا مباشرة, يكفي أن نتعلم كيف نصب الشمع في آذاننا.
عن كاتب المقال
(دان أريلي) هو بروفيسور في جامعة (ديوك) , قسم علم النفس
والسلوك الاقتصادي, ومؤلف الكتابين الرائعين (بشهادة من أمه): "غير منطقي
ولكنه متوقع" و "الجانب المشرق من اللامنطقية"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق